المحاولة في القانون المغربي

بسم الله الرحمان الرحيم و الصلاة و السلام على أشرف المرسلين

الموضوع : المحاولة في القانون الجنائي المغربي

من إعداد الطالب الباحث : عبدالواحد العزاري 
باحث في القانون الجنائي و التعاون الجنائي الدولي

مقدمة:

من المعلوم أن نظرية المحاولة نظرية حديثة في القانون، لم يكن لها مفهوم واضح في السابق، إذ كان تقديرها آنذاك متروكا للقضاء ، ولم تنظم من طرف المشرع إلا بعد أن أصبحت أحكامها معروفة وقارة[1].
وقد تبلور مفهوم جريمة المحاولة بعد قيام الثورة الفرنسية سنة 1789، وبعدها المدونة الجنائية التي صدرت سنة 1810 ، أما الفقهاء المسلمون فقد كانوا يدرسون المحاولة عن طريق التمييز بين الجرائم التامة والجرائم غير التامة[2].
إن المشروع الإجرامي - وكما هو معلوم - لا ينفذ دفعة واحدة وإنما يسبق النتيجة الإجرامية التي يستهدفها الجاني مراحل معينة تنطلق من مجرد فكرة تراود عقل الجاني ووجدانه، قد يتخلى عنها وقد يعقد العزم على ارتكابها[3]، فإن ارتكبها فإننا نصبح أمام جريمة تامة، أما إذا تم البدء في التنفيذ وانعدم العدول الاختياري ولم تتحقق النتيجة التي كان يترجاها الجاني، فإننا نكون أمام محاولة أو ما يصطلح عليها بالجريمة الناقصة.
هذا وللإلمام أكثر بنظرية المحاولة ، فإن واقع الأمر يفرض علينا التطرق لبعض الإشكاليات الجوهرية التي تثيرها هذه النظرية ، والتي يمكن صياغتها وفق الشكل الآتي ذكره:
ü    ما هي المرحلة التي يعتد فيها بالعدول الإداري ؟
ü    متى يعتبر العدول إراديا ؟
ü    هل يمكن اعتبار القيام بالأعمال التحضيرية شروعا في تنفيذ الجريمة ؟
ü    هل يمكن تصور المحاولة في جميع أنواع الجرائم ؟
بداية وقبل الخوض في غمار الإجابة عن التساؤلات الإشكالية أعلاه، نرى ضرورة تقسيم هذا الموضوع إلى مبحثين رئيسيين ، حيث سنخصص المبحث الأول للحديث عن ماهية المحاولة (تعريفها وتنظيمها التشريعي، وتمييزها عن المراحل السابقة لها وكذا نطاقها) ، في حين سنخصص المبحث الثاني لدراسة تجليات نظرية  المحاولة ( عناصرها و صورها وكذا عقابها ) .

المبحث الأول: ماهية المحاولة

المطلب الأول: تعريف المحاولة و تنظيمها التشريعي

لقد عرف أعضاء المؤتمر الدولي لقانون العقوبات المنعقد في فرساي سنة 1927 المحاولة بأنها "وضع الوسائل المعدة لارتكاب الجريمة موضع التنفيذ" ، في حين عرفها المشرع المغربي بمقتضى الفصل 114 من القانون الجنائي ، والذي ينص على أن "كل محاولة ارتكاب جناية بدت في الشروع في تنفيذها أو بأعمال لا لبس فيها ، تهدف مباشرة إلى ارتكابها، إذا لم يوقف تنفيذها أو لم يحصل الأثر المتوفى منها إلا لظروف خارجة عن إرادة مرتكبها تعتبر كالجناية التامة ويعاقب عليها بهذه الصفة".
إن المتأمل في هذا النص القانوني الوارد أعلاه ، لواجد أن المشرع المغربي قد اقتصر على تعريف المحاولة في الجنايات فقط دون الجنح، لكن وبالرجوع إلى أحكام نفس المادة من مشروع ق.ج نجد أن المشرع المغربي قد تجاوز هذا القصور، وأصبح التعريف يطال الجنايات والجنح معا ، إذ أصبح منطوق المادة 114 ينص على الآتي ذك ره: "كل محاولة ارتكاب جناية أو جنحة..."
هذا وقد تم تنظيم المحاولة بمقتضى الكتاب الثاني المتعلق بتطبيق العقوبات والتدابير الوقائية للمحكوم عليه وذلك في الباب الثاني من الجزء الأول في المواد من 114 إلى 117 من مجموعة القانون الجنائي.

المطلب الثاني: تمييز المحاولة عن المراحل السابقة لها

من المعلوم أن تنفيذ أي مشروع إجرامي يستلزم المرور من مراحل متعاقبة ومتوالية بدءا بمرحلة التفكير في الجريمة والتصميم عليها ومرورا بمرحلة الإعداد والتحضير لها ، وانتهاءا بمرحلة تنفيذها وترقب نتيجتها .
وبناءا عليه ، فإنه يتعين التمييز بين مرحلتين سابقتين للمحاولة وهما مرحلة التفكير في الجريمة ومرحلة التحضير لها .

الفقرة الأولى: تمييز المحاولة عن مرحلة التفكير في الجريمة

إن مرحلة التفكير في الجريمة ما هي إلا مرحلة نفسية باطنية، وهي التي تنبث أثناءها فكرة الجريمة في ذهن الشخص وتنعقد لديه النية على ارتكابها، وهذه المرحلة قد تدوم لحظات معدودات وقد تستمر شهورا طويلة، وأحيانا يعدل صاحبها عنها وأحيانا أخرى يضعها موضع التنفيذ[4]، وهي مرحلة غير معاقب عليها فهذا هو الأصل لأنها لا تشكل أدنى خطرا على المجتمع مادامت لم تتخذ مظهرا خارجيا في شكل نشاط مادي ملموس، ويمكن تمييزها عن المحاولة في كون هذه الأخيرة معاقب عليها متى تم البدء في التنفيذ، وانعدم العدول الاختياري.

الفقرة الثانية: تمييز المحاولة عن مرحلة التحضير لارتكاب الجريمة

من البديهي أن مرحلة التحضير هي مرحلة تلي مرحلة التفكير وعقد العزم، وهي مرحلة وسطى تتوسط التفكير في الجريمة والبدء في تنفيذها، فمن يعقد العزم على ارتكاب فعل جرمي ما فإنه في غالب الأحيان، لا ينفذه فورا، وإنما يبدأ في الاستعداد والتحضير له[5].
فمن يريد ارتكاب جريمة السرقة فإنه يعد السلاح والأدوات اللازمة لكسر الأقفال أو تسلق الجدران، كما يقوم بمراقبة المنزل لمعرفة مداخله ومخارجه، والأفعال التحضيرية هي أفعال غير مجرمة وغير معاقب عليها، وهذا هو الأصل بطبيعة الحال، إلا أن هذا الأصل ترد عليه بعض الاستثناءات إذ توجد نصوص خاصة تعاقب على الأعمال التحضيرية، إما بعقوبة خاصة باعتبارها جريمة مستقلة مثل الاتفاق الجنائي المنصوص عليه في المواد 175 (المؤامرة) والمواد من 233 إلى 263 (تواطؤ الموظفين)...
وإما بعقوبة الجريمة التي كان يحضر لها الجاني مثل الحالات المنصوص عليها في المادة 186[6].

المطلب الثالث: نطاق المحاولة

بما أن المحاولة تعتبر جريمة لم تتحقق فيها النتيجة الإجرامية التي كان يتوخاها الجاني، فإن هذه الجريمة الناقصة، لا يمكن تحققها إلا في أنواع محددة من الجرائم دون غيرها، فما هي إذن هذه الجرائم؟
للإجابة عن هذا التساؤل الإشكالي نرى ضرورة تقسيم هذا المطلب إلى ثلاث فقرات، سنخصص الفقرة الأولى للحديث عن الجرائم العمدية، بينما سنفتح المجال في الفقرة الثانية للحديث عن إمكانية تصور المحاولة في الجرائم البسيطة، على أن نخصص الفقرة الأخيرة للحديث عن المحاولة في جرائم النتيجة وفي الجرائم الشكلية.

الفقرة الأولى: الجرائم العمدية

تعتبر الجريمة عمدية عندما تدخل ضمن الجرائم التي تطلب المشرع لقيامها توافر العمد (أو القصد الجنائي) ، ففي هذا الصنف من الجرائم يمكن تصور وجود محاولة[7]، أما في الجرائم الغير عمدية فلا يمكننا افتراض محاولة نظرا لانتقاء عنصر القصد في هذا النوع من الجرائم، كالصياد الذي يطارد فريسته ويطلق النار عليها إلا أنه يقتل إنسانا بالخطأ وبدون أن تتجه نيته إلى قتله، فلا محاولة في هذه الجريمة لتخلف ركن مهم هو الركن المعنوي.

الفقرة الثانية: الجرائم البسيطة

في الجرائم البسيطة نلاحظ أن المحاولة تتحقق بكافة صورها، والجريمة البسيطة هي تلك الجريمة التي لا يتطلب فيها القانون تكرار النشاط الإجرامي أكثر من مرة[8]، سواء كانت هذه الجرائم وقتية أو مستمرة وسواء كان هذا السلوك إيجابيا أو سلبيا، بخلاف الجرائم الاعتيادية فلا سبيل لتصور المحاولة فيها على الإطلاق، بالنظر لضرورة توافر أفعال الاعتياد التي تعتبر دليلا على حصول النتيجة التي يتوخاها المجرم من سلوكه الإجرامي[9].

الفقرة الثالثة: جرائم النتيجة والجرائم الشكلية

في جرائم النتيجة يمكننا تصور المحاولة بمختلف أشكالها سواء الجريمة الموقوفة أو الجريمة الخائبة أو الجريمة المستحيلة، أما في الجرائم الشكلية فلا يمكن الحديث فيها بصفة قاطعة عن المحاولة إذا تعلق الأمر بالجريمة الخائبة أو بالجريمة المستحيلة، أما بالنسبة للجريمة الموقوفة فيجب علينا التمييز بين حالتين اثنتين: حالة ارتكابها بفعل إيجابي، وحالة ارتكابها بفعل سلبي، فالجريمة الموقوفة لا يمكن أن تتحقق في صورة الجريمة الشكلية السلبية، أما في الجريمة الشكلية الإيجابية، فيمكن تصور المحاولة فيها كجريمة التسميم مثلا[10].

المبحث الثاني: تجليات نظرية المحاولة

المطلب الأول: عناصر المحاولة

يستفاد من منطوق المادة 114 من القانون الجنائي المغربي أنه لقيام المحاولة المعاقب عليها يستلزم توافر شرطين أو عنصرين وهما البدء في تنفيذ الجريمة ، ثم شرط انعدام العدول الإرادي.

الفقرة الأولى: البدء في التنفيذ

إن الانتقال من مرحلتي التفكير والتحضير إلى مرحلة التنفيذ هو انتقال من مجال الإباحة إلى مجال التجريم، كما نجد أن عنصر البدء في التنفيذ قد قيلت فيه نظريتين أو معيارين وهما المعيار المادي أو الموضوعي فالمعيار الشخصي.
أولا :  المعيار المادي أو الموضوعي
 يقوم هذا المذهب على النظر إلى خطورة الفعل التنفيذي في ذاته ويتميز هذا المعيار بأنه يتطلب للبدء في التنفيذ أفعالا خطيرة في ذاتها، فتنحصر الأهمية بالنسبة له في خطورة الأفعال الإجرامية من وجهتها المادية وليس في خطورة الحالة النفسية للجاني[11]، بهذا يرى أنصار هذه النظرية أن تحديد البدء في التنفيذ إنما يتأسس على ما يعد عن الجاني من أفعال خطيرة[12]، وأن الفعل لا يعد بدءا في التنفيذ إلا إذا كان داخلا في تعريف الجريمة المراد ارتكابها أو مكونا لظروف مسددة للعقاب عليها، وهذا يعني أن الشروع في الجريمة لا يتحقق إلا ببذل الجاني لنشاط يدخل في التعريف القانوني للجريمة المراد ارتكابها أو في الأقل ارتكاب فعل يعد ظرفا مشدد لها[13].
فالشروع في القتل لا يقوم إلا إذا بدأ الجاني بارتكاب فعل الاعتداء على الحياة كإطلاق الرصاص على المجني عليه فعلا ، أو بوضع اليد على فمه بقصد خنقه، والشروع في السرقة لا تقوم إلا إذا بدأ الجاني بالقيام بفعل الأخذ والاستيلاء بوضع اليد على الشيء المراد سرقته تمهيدا لانتزاعه من حيازة المجني عليه[14] ، أو دخول الجاني إلى المنزل وهو يحمل سلاحا، أو برفقتهه شخص آخر حيث يعتبر دخوله هذا شروعا في التنفيذ لأن من ظروف التشديد في السرقة التسلحح والتعدد (م 507)[15] ، ويعاب على هذا الرأي إسرافه في التضييق من نطاق الشروع إلى الحدد الذي يهدر مصلحة المجتمع ويعطي فرصة كبيرة للحياة الإفلات من العقاب[16].
ثانيا - المعيار الشخصي
 يكتفي أنصار هذا المذهب بأفعال غير خطرة طالما كانت تعبر بوضوح عن خطورة شخصية الجاني ونيته لارتكاب الجريمة، فالمهم ليس هو الفعل بحد ذاته الذي يقوم به الجاني بل الخطورة التي يكشف عنها هذا الفعل على الحق الذي يحميه القانون[17] ، ورغم أن المعيار الشخصي يوسعع من نطاق المحاولة المعاقب عليها على نحو يؤمن مصالح المجتمع، فإن ما يعاب عليه هو افتقارهه للدقة، حيث أنه يقصر كل اهتمامه على معرفة النية الإجرامية لدى الجاني دون التحقق من الخطر الذي ينطوي عليه الفعل الجرمي ، وأن النية والقصد الجنائي عنصران يرتبطان بالحالة النفسية للجاني[18]، وهذا ما يصعب مهام القاضي باعتبار أن النية والقصد هما من الأمور الباطنية يصعب تحديدهما.
ثالثا - موقف القانون المغربي
باستقراء الفصل 114 من القانون الجنائي "كل محاولة ارتكاب جناية بدت بالشروع في تنفيذها أو بأفعال لا لبس فيها، تهدف مباشرة إلى ارتكابها، إذا لم يوقف تنفيذها أو لم يحصل الأثر المتوخى منها إلا لظروف خارجة عن إرادة مرتكبيها، تعتبر كالجناية التامة ويعاقب عليها بهذه الصفة". يتضح أن المشرع المغربي أخذ بالاتجاهين، ودليله عبارة "بدت بالشروع" إعمالا للنظرية الموضوعية، وعبارة "أعمال لا لبس فيها تهدف مباشرة إلى ارتكابها" أعمالا للنظرية الشخصية[19]، وبهذا يكون المشرع المغربي أخذ موقع الوسط وأخذ بالمعيارين ودليل ذلك مقتضيات المادة 114 من القانون الجنائي المغربي.

الفقرة الثانية: انعدام العدول الإرادي

بتفحص المادة 114 من القانون الجنائي المغربي يكون انعدام العدول الإرادي هو العنصر الثاني من عناصر المحاولة ، و به تتحقق المحاولة المعاقب عليها ، فعدول الجاني بمحض إرادته عن إتمام نشاطه الإجرامي يحول دون العقاب لأنه لا جريمة في حالة العدول الاختياري، وما إقرار المشرع لهذا الأمر إلا تشجيعا منه لتراجع الجاني عن استكمال سلوكه الإجرامي وبعدم تحقق انعدام العدول الإرادي ، فالقانون يشجع الشخص الذي يقدم على ارتكاب جريمة على التراجع عن فعله، بأن يضمن له عدم العقاب، ولا يهم الدافع إلى ذلك (الشفقة، الخوف من العقاب...).
لكن قد يصعب من الناحية العملية تقرير متى يكون العدول إراديا ومتى يكون غير كذلك، والحقيقة أنه ليس هناك قاعدة أو معيارا يمكن من التمييز بين العدول الإرادي والعدول اللاإرادي بحيث إن القاضي هو الذي يستخلص ذلك من خلال المعطيات المتوفرة لديه[20].
وبهذا فإن العدول الإرادي لا يكون إلا بمحض إرادة الشخص واختياره، أما العدول الاضطراري لا يكون إلا بفعل تدخل عنصر أجنبي حال دون قيام الجاني بالأفعال الإجرامية، فإذا وصل الفاعل إلى مكان الجريمة ورأى أحد رجال الأمن فلاذ بالفرار فإن عدوله لا يعد اختيارا ويسأل عن الشروع في هذه الجريمة[21]، ويجب أن يتم العدول قبل إنجاز الفعل وتحقق النتيجة الإجرامية، فمن سمم شخصا بمادة قاتلة ثم عاد فأسعفه وأسقاه علاجا يزيل خطر ذلك السم فإن إنقاذه إياه لا يمنع عنه عقوبة القتل بالتسميم، وإذا كان توقف التنفيذ ناتجا عن سبب لا علاقة للفاعل فيه فإن المحاولة التي منعت قسرا تكون خاضعة للعقاب[22].

المطلب الثاني : صور المحاولة

كما تمت الإشارة إلى ذلك سابقا، فالجريمة هي جملة من الأفعال والأعمال المترابطة والمتعاقبة، والتي تبتدأ بمرحلتي التفكير والتحضير وتنتهي بمرحلة ارتكاب الفعل الجرمي وتحقق النتيجة، لكن الملاحظ في كثير من الأحيان أنه قد لا يترتب عن تنفيذ السلوك الإجرامي، تحقق النتيجة التي كان يتوخاها الجاني لأسباب خارجة عن إرادته، وذلك إما لأن البدء في ارتكاب الفعل قد تم وقفه، وإما لأن الفعل تم تنفيذه من جانب المجرم، ولكن أثره لم يتم[23].
هذا ويقتضي الحديث عن وقف التنفيذ أو خيبة أثره، التطرق إلى الشروع الناقص - الجريمة الموقوفة - والشروع التام - الجريمة الخائبة - كما أن موضوع الدراسة يفرض علينا الحديث عن الشروع في الجريمة المستحيلة.
وبناءا عليه فإننا نرى ضرورة التطرق لصور المحاولة في ثلاث فقرات أساسية، حيث سنعالج في الفقرة الأولى "الجريمة الخائبة" بينما سنتحدث في الفقرة الثانية عن "الجريمة الموقوفة"، على أن أخصص الفقرة الثالثة والأخيرة للحديث عن "الجريمة المستحيلة".[24]

الفقرة الأولى: الجريمة الخائبة

الجريمة الخائبة هي صورة من صور المحاولة، وقد ورد التنصيص عليها بمقتضى المادة 114 من مجموعة القانون الجنائي المغربي، حيث عبر عنها المشرع ب "لم يحصل الأثر المتوفى منها إلا لظروف خارجة عن إرادة مرتكبيها..."
فالمستفاد من هذه العبارة أن هذه الصورة من المحاولة تتحقق متى استنفذ الجاني كل نشاطه الإجرامي بغية تحقيق النتيجة التي يتوخاها، لكن هذه الأخيرة لا تتحقق لسبب لا دخل لإرادة الجاني فيه، كمن يقوم بتصويب مسدس محشو بالرصاص نحو المجني عليه ويضغط على زناده بقصد قتله لكنه يصبه في غير مقتل.[25]

الفقرة الثانية: الجريمة الموقوفة

الجريمة الموقوفة هي الصورة المألوفة والعادية للمحاولة لأن الجاني فيها، يكون مستمرا في مواصلة القيام بالأعمال التي توصله إلى النتيجة الإجرامية، ولكن سببا أجنبيا يرغمه على التوقف قبل إتمام هذه الأعمال كالقبض عليه أو مقاومة المجني عليه أو هروبه مثلا.
وقد ورد التنصيص على هذه الصورة من صور المحاولة بمقتضى المادة 114 من القانون الجنائي، والتي أكدت على أن المحاولة تتحقق بالشروع في تنفيذ الجريمة أو القيام بأعمال لا لبس فيها تهدف مباشرة إلى ارتكابها إذا لم يوقف تنفيذها إلا لظروف خارجة عن إرادة مرتكبيها...".[26]
و في هذا الإطار و كمثال عن الجريمة الخائبة يمكن الاستدلال بوقائع الحكم 00/1690 الصادر عن المحكمة الإبتدائية بمكناس[27] ، بين النيابة العامة من جهة و بين المتهم الظنينن بارتكاب جنحة محاولة السرقة طبقا للفصول 505/114/539 من القانون الجنائي ، و الذي يستفادد منه أن المسمى ... تقدم بشكاية مفادها أنه بعدما قام بفتح باب منزله سمع صوتا بداخله و بولوجه وجد بعض أثاثه موضوعة بحقيبتين شك في أمر ذلك و خرج من منزله و شاهد المتهم أعلاه و هو يلوذ بالفرار ، و قد قضت المحكمة ببراءة المتهم مع تحميل الخزينة العامة الصائر نظرا لأن ملف النازلة خال من أي دليل يفيد قيام المتهم بالمنسوب إليه .
ومما تتقدم نخلص إلى أن الجريمة الموقوفة تتفق مع الجريمة الخائبة في عدم تحقق النتيجة النهائية، ولكنها تختلف عنها أنه في حالة الجريمة الموقوفة يبدأ الجاني في تنفيذ الجريمة ثم يوقف هذا التنفيذ قبل تمامه ورغما عنه، بينما في حالة الجريمة الخائبة فإن الجاني يكون قد استنفذ كل نشاطه الإجرامي في سبيل تنفيذ جريمته.

الفقرة الثالثة: الجريمة المستحيلة

هي الصورة الثالثة من صور المحاولة، ويقصد بها الجريمة التي لم يكن بوسع الفاعل أو أي شخص آخر مكانه أن يحقق النتيجة الإجرامية فيها لإستحالة وقوعها، وقد تم التنصيص عليها بمقتضى المادة 117 من ق.ج حيث عبر عنها المشرع المغربي "والتي يكون الغرض فيها غير ممكن بسبب ظروف واقعية يجهلها الفاعل" ومثال ذلك من يطلق نارا على شخص ميت قصد قتله أو من يريد إجهاض امرأة هي في الأصل غير حامل فالجريمة المستحيلة تتميز عن نظيرتها الخائبة في كون النتيجة تكون مستحيلة في الجريمة الأولى بينما تكون قابلة لذلك في الجريمة الخائبة.
هذا وقد ثار جدل فقهي حول العقاب في الجريمة المستحيلة أفرز وجود ثلاث نظريات، نظرية تقضي بعدم العقاب المطلق لأن هذه الجريمة لا تنتج أي اضطراب اجتماعي كما أفرزت نظرية تقضي بالعقاب المطلق لأن الجاني أظهر نيته الإجرامية، كما أن العنصر المادي قد ارتكب، وهناك نظرية ثالثة توفقية والتي قضت بالعقاب في حالة الاستحالة الواقعية فقط وهذا ما نهجه المشرع المغربي في الفصل 117 من القانون الجنائي.[28]

المطلب الثالث: العقاب على المحاولة

بالعودة إلى مقتضيات القانون الجنائي سيما تلك المنظمة لاجريمة الناقصة نجد أن مشرعنا المغربي، قد عاقب على المحاولة في صورة الجريمة الموقوفة والخائبة بناءا على أحكام المادة 114 من نفس القانون ، وبالرجوع إلى الفصل 117 من القانون الجنائي نلاحظ أن المشرع المغربي قد قرر العقاب على جريمة المحاولة في كل صورها بما فيها حالة الجريمة المستحيلة، حيث ينص على أنه: "يعاقب على المحاولة حتى في الأحوال التي يكون الغرض فيها من الجريمة غير ممكنا بسبب ظروف واقعية يجهلها الفاعل"[29]، حيث قرر المشرع المغربي العقاب على محاولة الجناية في مختلف صورها بعقوبة الجناية التامة بسند الفصل 114 من القانون الجنائي[30]، أما إذا تعلق الأمر بجنحة، فإن عقاب الجنحة لا يطبق على المحاولة فيها إلا عند وجود نص خاص يقضى بذلك، كالفصل 198 من القانون الجنائي المتعلق بسلامة الدولة الخارجية (الفقرة الأخيرة، والفصل 346 ق.ج، المتعلقة بتزييف العلامات والطوابع (الفقرة الأخيرة) وبعض الفصول الأخرى 360، 494، 506... ق.ج) وذلك استنادا إلى الفصل 115، وأخيرا فإن المحاولة في المخالفات لا يعاقب عليها وذلك بناء على الفصل 116 من القانون الجنائي[31]، غير أنه مع هذا التضييق النسبي، فإن القانون المغربي تشدد في عقاب المحاولة سيما في بعض حالات الجريمة المستحيلة كمن يترصد قتل شخص بأعمال الشعوذة أو بمسدس للأطفال معتقدا أنه مسدس ناري ففي هاتين الحالتين يبدو العقاب بالإعدام (م392) قاسيا.
ويمكن القول على أن القاضي يملك سلطة منح ظروف التخفيف (م 146 وما بعدها) لتخفيض العقوبة المنصوص عليها في القانون في بعض حالات المحاولة التي يرى عدم مناسبة تلك العقوبة بها، غير أن طبيعة المحاولة باعتبارها غير ذات نتيجة إجرامية، كانت تقتضي تخفيض العقوبة فيها عن الجريمة التامة في قاعدة عامة، أما ظروف التخفيف فينبغي أن تبقى مقتصرة على الواقع الخاصة بكل جريمة على حدة والتي يتعذى جمعها في تلك القاعدة العامة[32].

خاتمة
  ختاما و أخذا بما تقدم ، و بعد أن لامسنا جل الجوانب المتعلقة بنظرية المحاولة من خلال عرضنا لمجموعة من الإشكاليات التي تطرحها هذه الأخيرة ، و التي أوضحت لنا و بشكل جلي  أهمية هذا الموضوع سواء على المستوى القانوني أو على المستوى الواقعي .
 كما خلصنا إلى أن نظرية المحاولة ترتبط وجودا و عدما بعنصريها البدء في التنفيذ و انعدام العدول الإختياري .








لائحة المراجع:

·       أحمد الخمليشي: شرح القانون الجنائي، القسم العام، دار النشر.
·       حسن العلوي الاسماعيلي: القانون الجنائي في شروح.
·       علوي جعفر: المعين في شرح القانون الجنائي العام المغربي فقها وقضاء، الطبعة الأولى 2010، مطبعة دار القلم، الرباط.
·       لطيفة الداودي: الوجيز في القانون الجنائي المغربي.
·       محمد العروصي: المختصر في شرح القانون الجنائي المغربي، الجزء الأول، القانون الجنائي العام، الطبعة الأولى 2015،
·       محمد بنجلون: شرح القانون الجنائي العام وتطبيقاته.
·       محمد صبحي نجم: قانون العقوبات، القسم العام، النظرية العامة للجريمة.
·       محمد ملياني: القانون الجنائي العام، الطبعة الأولى 2004، دار النشر الجسور 40، شارع رمضان الكاضي، وجدة.
·       نور الدين العمراني: شرح القسم العام من القانون الجنائي المغربي.


تصميـــم

















[1] - لطيفة الداودي: الوجيز في القانون الجنائي المغربي، ص 61.
[2] - محمد بنجلون: شرح القانون الجنائي العام وتطبيقاته، ص 89.
[3] - نور الدين العمراني: شرح القسم العام من القانون الجنائي المغربي، ص 115.
[4] - علوي جعفر: المعين في شرح القانون الجنائي العام المغربي فقها وقضاء، ص 141.
[5] - علوي جعفر، مرجع سابق، ص  142.
[6] - أحمد الخمليشي: شرح القانون الجنائي، القسم العام، ص 162.
[7] - محمد بنجلون: شرح القانون الجنائي وتطبيقاته، ص 146.
[8] - الجرائم المنصوص عليها في الفصول 263 و368 و380 و392 من القانون الجنائي
[9] - محمد العروصي: المختصر في شرح القانون الجنائي المغربي، الجزء الأول، القانون الجنائي العام، ص 103.
[10] - محمد بنجلون: شرح القانون الجنائي وتطبيقاته، مرجع سابق، ص 98.
[11] - محمد صبحي نجم: قانون العقوبات، القسم العام، النظرية العامة للجريمة، ص 233.
[12] - محمد العروصي: المختصر في شرح القانون الجنائي المغربي، الجزء الأول، القانون الجنائي العام، الطبعة الأولى 2015، مطبعة مرجان، مكناس، ص 218.
[13] - علوي جعفر: المعين في شرح القانون الجنائي العام المغربي فقها وقضاء، الطبعة الأولى 2010، مطبعة دار القلم، الرباط، ص 145.
[14] -  محمد صبحي نجم، مرجع سابق، ص 233.
[15] - علوي جعفر، مرجع سابق، ص 145.
[16] - محمد صبحي، مرجع سابق، ص 233.
[17] - نفس المرجع، ص 233.
[18] - شرح القسم العام من القانون الجنائي، طبعة 2012، مطبعة 2012، مطبعة وراقة سجلماسة، الزيتون مكناس، ص 118.
[19] - محمد العروصي، مرجع سابق، ص 221.
[20] - محمد ملياني: القانون الجنائي العام، الطبعة الأولى 2004، دار النشر الجسور 40، شارع رمضان الكاضي، وجدة، ص 126.
[21] - علوي جعفر، مرجع سابق، ص 148.
[22] - حسن العلوي الاسماعيلي: القانون الجنائي في شروح، ص 82.
[23] - محمد صبحي نجم، مرجع سابق، ص 240.
[24] - حسن العلوي الاسماعيلي: القانون الجنائي في شروح، ص 10.
[25] - نور الدين العمراني، مرجع سابق، ص 122.
[26] - لطيفة الداودي: الوجيز في القانون الجنائي المغربي، ص 69-70.
_حكم 00/1690 ، الصادر بتاريخ 2000/03/06 تحت عدد... ، ملف جنحي عادي ، رقم 00/1377[27]
[28] - محمد الملياني: القانون الجنائي العام، الطبعة الأولى 2004، ص 122.
[29] - محمد بنجلون، مرجع سابق، ص 96.
[30] - محمد العروصي، مرجع سابق،  ص 231.
[31] - محمد ملياني، مرجع سابق، ص 127.
[32] - أحمد الخمليشي: شرح القانون الجنائي، القسم العام، دار النشر، ص 186.

تعليقات

إرسال تعليق